بولونيا اول جامعة اوربية
                                
                                    بسم الله الرحمن الرحيم
المقالة العلمية :                   بولونيا اول جامعة اوروبية
                                                                 أ. د . ندى موسى عباس                 
    إرهاصات تشكيل الجامعة  
        أرتبط  التعليم العالي (المتقدم) بفلاسفة اليونان في العصور القديمة (الكلاسيك) ، حيث عدت مدارس اثينا الفلسفية القديمة اولى مدارس التعليم العالي ، والتي أستمر تأثيرها الى بداية العصور الوسطى، لترث تركتها مدارس الكنيسة المسيحية. ذلك انه لما  ظهرت الحاجة لنشر تعاليم الديانة المسيحية في اوروبا في القرن السادس الميلادي ، تصدت الكنيسة البابوية لمشروع ألحاق المدارس اللاتينية بالمؤسسات الدينية (الكاتدرائيات  والكنائس الصغيرة ، والاديرة) لتكون البابوية هي راعية الثقافة والتعليم الديني المسيحي في العالم .  
        انتشرت مدارس البابوية في كل أنحاء اوروبا وأصقاعها المترامية البعيدة ، وأنحصر التعليم فيها برجال الدين المسيح وبعلومهم الدينية ! فالهدف الأساسي والهم الاول لهم في مدارسهم هو تخريج الرهبان والقساوسة ، ممن سيتولون السلك الكهنوتي للتبشير بالمسيحية ، والاشراف على حسن تأدية المراسيم والطقوس الدينية (القداس المسيحي) .على ان الكنيسة البابوية بدأت تفقد قوة تأثير نفوذها ابتداء من القرن التاسع الميلادي ، وبالتالي ضعف الاقبال على مدارسها ، وبالمقابل برزت في ايطاليا المدارس العامة المسماة باللاتينية بـ Stadium general ذات الروح الجديدة التواقة الى الحداثة ، ومع توسع نطاق الاهتمام بالعلوم الدنيوية والاقبال عليها ، حيث جذبت الطلبة الاجانب بأعداد كبيرة من خارج ايطاليا ، فضلا عن مواطنيها من الاقاليم الايطالية ، والكل كان في لهفة وتعطش لمختلف التخصصات العلمية . وهكذا لوحظ أن المدارس العامة في أوروبا قد انبثقت من الكنائس والاديرة ، ومن المدارس العامة خرجت الجامعات  وان كل من رجال الدين والثقافة وأساتذة الجامعات قد تشاركوا معاً في نشر العلوم الدنيوية في الجامعات .                                                                                                                                                                                                    
       كان مفهوم مصطلح الجامعات Universities في مدينة بولونيا بالقرنين الحادي عشر – الثاني عشر الميلادي يعني باللاتينية نقابة أو أتحاد او رابطة تجمع بين عدة افراد يعملون بحرفة او مهنة واحدة ، فكانت هناك نقابات للتجار والصناع وبلديات المدن ، وقد شاع تنظيمها (المهني والتجاري) بنطاق واسع في المدن الاوربية عامة والايطالية خاصة ، واكتسبت الصفة الشرعية باستقلالها عن حكام المدن ، وقد تشكلت على غرارها نقابات خاصة للطلبة الاجانب من الجنسيات المتعددة في المدارس العامة بالمدينة ، وكان الطلبة الالمان هم اول من شكلوا لأنفسهم نقابة ، وتبعهم بقية الطلبة من الجنسيات الاخرى . 
جاءت الخطوة التالية هي مرحلة التوحيد ، اذ وحدت كل المدارس العامة في مدينة بولونيا بمدرسة واحدة تمثلت بـ اتحاد علمي ، أطلق عليها مصطلح " الجامعة " Universitas أو بـ Scholarium Universitates والمتأتية من تسمية Scholaer ، وعلى ضوء ذلك جمعت نقابات الطلبة الاجانب في تجمع عام تشكلت منه نقابة لاتحاد واحد موحد عرف بـ الأمم Nations ، كان هدفه الاول هو مساعدة الطلبة الاجانب بعضهم البعض ؛ ورعاية شؤونهم ومصالحهم الخاصة ، وحل مشاكلهم  لاسيما مسألة حمايتهم من الوقوع بأخطاء قانونية تعرضهم للعقوبات والتي غالبا ما تطبق بشكل جماعي على كل الطلبة الاجانب بجنسياتهم المتنوعة ! لا سيما عقوبات الجرائم ، والديون لمواطني مدينة بولونيا ، وقد حصلت نقابة هذا التجمع على حقوق اكبر من حقوق وامتيازات حكام المدينة ، وأهمها : انتهاء العقوبات الجماعية ، وفسح المجال لعقد المفاوضات مع نقابة الاساتذة والمعلمين او ما أصبح يعرف ايضا بـــ " مجتمع المعلمين والعلماء". 
        لقد نظم طلبة نقابة الاتحاد الاممي انفسهم بانتخاب اثنين منهم لمهمة التفاوض ، فيما تتم الموافقة على القرارات بالتصويت بالأغلبية لتحديد مطالبهم بما يتعلق بــ مناهج المحاضرات ، بداية ونهاية الفصول الدراسية (الكورسات) وتعيين الاساتذة ، وتحديد اجورهم ! وكان يحق للطلبة التهديد بالإضرابات من اجل عقد تفاوض ما او إيقافه . وعليه غدا للطلاب الاجانب وبفضل دعم نقابتهم نفوذ وسلطة على الجامعة يضاهي نفوذ السلطات الحكومية  ولا يقل شأناً عنها بالقوة المعنوية . 
        شيئا فشيئا باتت جامعة المدارس العامة الموحدة مركزا للدراسات المتقدمة ، لها بنايتها المستقلة الخاصة بها وحاز حرمها الجامعي كمكان هادئ يفوح منه  ببق العلوم والمعارف ز على مكانة واحترام وهيبة وقدسية مدنية ، وكان يضم : كنيسة ومكتبة وغرف دراسية وغرف لأساتذتها وللإدارة ، ومضت تثبت لها اعراف وتقاليد وبرتوكولات منظمة ومحكمة ألزمت منتسبيها بالحفاظ عليها . 
 نشوء جامعة بولونيا  
       في خضم البحث عن تاريخ نشأت الجامعات ، كانت جامعة بولونيا University of Bologna اول أسم في تاريخ جامعات اوروبا ؛ فهي أقدم جامعة اوروبية على الاطلاق ،  وهي من نتائج عصر النهضة الاوربية (اواخر العصور الوسطى) ، وبرواية أغلب المؤرِّخين فإنها تأسست عام 1088 م في مدينة بولونيا عاصمة اقليم أميليا بإيطاليا . وتم أستنساخ تجربتها الناجحة والقيمة في تأسيس باقي جامعات ايطاليا ودول اوربية اخرى (فرنسا وانكلترا وغيرهما) . وعليه فهي أول جامعة منحت درجة الدكتوراه في اوروبا وذلك في عام 1219 م ، وما تزال جامعة بولونيا ومنذ اكثر من عشرة(10) قرون قائمة الى اليوم! كثاني أكبر جامعة في إيطاليا ، بعد جامعة لاسبينزا في روما.
       نشأت جامعة بولونيا كمؤسسة مستقلة ، لا سيطرة لأي نفوذ ديني او سياسي عليها ! ولكن بعد ان تطورت وأصبح تأثيرها الثقافي والعلمي يهدد كل من الكنيسة والحكومة ، سعيا الاثنين لتحييدها ، ومن ثم الالتزام بتمويلها لتكونا من رعاتها ، وفي عام 1158 م استطاعت الجامعة ان تحصل على موافقة رسمية من الامبراطور الروماني المقدس فردريك الاول  Friedrich1 ملك المانيا (بروسيا) وايطاليا (1155ــــ1190) ، ومن حينها أصبحت لكل من الطلبة والاساتذة حريات وامتيازات وحقوق متبادلة !
نظام السلطة الادارية  
       تخصصت جامعة بولونيا في اول نشأتها بالدراسات القانونية منها: القانون الكنسي والمدني وتاريخ القانون الروماني ، وما تزال هذه المناهج تدرس الى يومنا ، وقد اختارت الجامعة شعار لها هو : "Alma master Studio rum " ويعني " الام المغذية للدراسات " ، وكانت الشهادة الوحيدة الممنوحة هي شهادة الدكتوراه . ومن ثم راحت الجامعة تتوسع بتفرع كليات عدة لها ، فعلى سبيل المثال افتتحت كلية اللاهوت (علوم الدين) عام 1352م . 
       سيطرت نقابة الطلبة الاجانب على ادارة جامعة بولونيا سيطرة تامة ، ذلك ان الطلبة الاجانب وان كانوا محرومين من كافة الحقوق المدنية في مدينة بولونيا ، ولكنهم استطاعوا في الجامعة وبواسطة نقابتهم من فرض شروطهم على الطلبة من اهالي بولونيا ، الذين لم يكونوا يتولون اية وظيفة في الجامعة ، وكانت حكومة المدينة تتقبل الجموع الغفيرة من الطلبة الاجانب التي تقدر بالألاف ينضمون للجامعة ، وكانت السن المسموح بها ما بين  السابعة عشر حتى سن الاربعين عاما ، وعليه كانوا عاملاً مهما من عوامل النشاط الاقتصادي للمدينة ورواج أسواقها  وهنا كان بمقدور نقابة الطلبة الاجانب تهديد حكومة بولونيا بالهجرة ليركد نشاطها الاقتصادي ! 
        كان رئيس النقابة (مديرها) هو نفسه رئيس الجامعة ، وله صلاحيات مستمدة من قوانين النقابة ، وقد اعترفت حكومة المدينة بسلطته ونفوذه ، حيث ان سلطته التنفيذية هذه بإمكانها تطبيق العقوبات وتوقيع الجزائات على المخالفين من طلبتها ، وفق لائحة النقابة التي هي نفسها لائحة الجامعة . وكانت انتخابات رئيس النقابة تتم وفق التصويت المباشر في مقر النقابة ، ويشترط  بالمرشح ان تتوفر فيه صفات معينه منها : ان يكون اعزباً ، والا يقل عمره عن اربع وعشرين (24) سنة ، وان يكون قد قضى خمسة (5) اعوام في دراسة القانون وان يكون متدينا ! علما ان راتبه الذي يتقاضاه متأتي من نصف الغرامات المفروضة على الطلبة المخالفين ، ولذا لم يكن احدا يرغب بهذا المنصب فضعف في مقابل مجلس الجامعة الذي كان مخصصاً للطلبة الاجانب حصريا .  
       من الجدير بالذكر ان النقابة تحكمت ايضا بأساتذة الجامعة المحليين ، فأجورهم كان يدفعها الطلبة عن طريق نقابتهم ، لذا لم يكن الاساتذة في الواقع سوى محاضرين يستأجرهم الطلاب ، ولذا يكفي ان يعلن الطلبة المقاطعة لأي استاذ حتى يحرم من راتبه ؛ ولاسيما وان الاساتذة لم يكن لهم اي تدخل في نقابة الطلبة ؛ وبالتالي فليس لهم صوت بالنقابة؛ فلا يشاركون في التصويت لأي انتخابات أو قضايا أو أمور تخص النقابة ! ولذا لا يمكنهم ان يعبروا عن رغباتهم  ، وغير معنيين بقسم الطاعة لرئيس الجامعة ، هذا من جهة ومن جهة أخرى فان نقابة الاساتذة كانت مرتبطة بالحكومة  وهذا الامر كافي لمنع سيطرتهم او تحكمهم بإدارة الجامعة . على ان الاساتذة من جهتهم وبفضل نقابتهم الخاصة بهم تمكنوا من السيطرة على كل ما يخص امتحانات الطلبة ، وفي اعطاء الاذن بالسماح للطلبة بالتدريس ، أو في الدخول برابطة هيئة التدريسيين .
المراجع 
1-	بلصوار ، سهيلة ، نشأة الجامعات وتطورها ، مجلة حوليات جامعة قالمة للعلوم الاجتماعية والانسانية ، العدد 13 ، السنة 2015م ، الجزائر . 
2-	عاشور ، سعيد عبد الفتاح ، الجامعات الاوربية في العصور الوسطى، دار الفكر العربي،(القاهرة ـــ2007م) .
3-	كرامب ، ج . و . أ . جاكوب ، تراث العصور الوسطى ، مراجعة الترجمة محمد بدران ومحمد مصطفى زيادة ، مجموعة بحوث مؤسسة سجل العرب . (بلا . مكان ـــ 1965م) .
4-	ناصر ، فادي . 2020 م . نشأة الجامعة وحقولها المعرفية بين الغرب المسيحي والشرق الاسلامي . مجلة جامعة العرفان . العدد الاول . لبنان . 
5-	هادي ، رياض عزيز ، نشأة الجامعات وتطورها ، مجلة سلسلة ثقافة جامعية ، جامعة بغداد ، العدد الثاني ، المجلد الثاني ، السنة 2010 م ، بغداد .
6-	يوسف ، جوزيف نسيم ، نشأة الجامعات في العصور الوسطى ، دار النهضة العربية للطباعة والنشر ، (بيروت ـــــ1981م) .
**************************************